الجمعة، 4 ديسمبر 2009

بات أعمى .. !




" دموعي تشي بالكثير ، وصوتي بات شاحباً مخنوقاً ..
إلى أين المفر يا إلهي .. وإلى من ألجأ ياربي !
كن بعوني ، واغفر لي وارحمني برحمتك التي وسعت كل شيء "
الساعة تشير إلى الثالثة فجراً ، وعمر لم يذق طعم النوم الهانئ منذ ذلك اليوم  ، فقد بات أمر النوم والصحو شيئان متماثلان ، في كل مسآء ،  وعندما يسكن كل من تحت هذه السماء وفوقها ، يفرش عمر سجادته في محرابه ، يناجي ربه ، يترجاه عفواً وغفراناً على ما مضى ، ودموعه تئن بحكايات وجع وألم .
في نومه لا يرى سِوى سوادٍ يحتضن أحلامه المزعجة ، وفي صحوهِ يغشاهُ سوادٌ يحفّهُ ويحجبه عن ما يدور حوله ،يفضل شائعة صحوه عن تلك الأحلام البائسة التي يراها وتزيده بؤساً وسواداً فوق كل سواد .
منذ 3سنوات وقصته لم تعرف القدم يوماً ، ولم يكتسيها الغبار كباقي القصص في قلب عمر ..
عمر ، شاب كباقي الشباب ، اتخذ من الحياة سبيل لعب ولهو ، ولم يكن يهمه شيء في هذه الدنيا بقدر ماتهمه سعادته التي يجدها في الإستمتاع بشبابه ، متهور دائماً ، متعجلٌ في اتخاذ قراراته ، حتى أصعب المواقف ، يتساهل فيها ، فهو بالمختصر ومن آخر السطر غير مبالٍ أبداً ، بنفسه وبمن حوله . مرّ شريط ذكرياته أمام ناظريه تحديدأً الخامسة عشر من مارس ذلك اليوم الذي لم تنسه ذاكرة عمر وما أخونها من ذاكرة ، حينما تأتي بالسواد دائماً وتترك الألوان بشتى أنواعها كيف يستطيع أن يَنْسَ تلك الحادثة ، التي بات وجعها يرن في قلُوب كل من يسمع تلك القصة ، قصة شاب ، لم يعرف يوماً معنىً للاستمتاع بحياته !
لا يبدو الشارع مزدحماً ، فهو كعادته هادئٌ في هذا الوقت من الليل ، مما حدا بعمر إلى رفع معدل السرعة ، فساق سيارته بجنون ، ورفع صوت المسجل إلى أعلى مستوى وبدأ يغني ويصرخ ، وفجأة رن هاتفه فزداد طيشاً . حتى إنه رأى لافتة كبيرة قد رفعت في أحد جوانب الشارع – لاتتصل حتى تصل – قرأها نعم بعينيه ، ولكن ليس بعقله ، ابتسم بسخرية ، واكمل محادثته مع أسامة ..
- أتعلم يا أسامة ، في بعض الأحيان أشعر بأن رجال الشرطة هم أناس متفرغون حقيقة !
- عمر.. ما بالكَ يارجل ، إنهم يسهرون على راحتنا ..
- هه .. أي راحة يا أسامة ، إنهم يتعاملون معنا كأطفال افعل هذا ولا تفعل هذا ..
- ...
- لمَ سكت ؟ ألا يعجبك كـ ... لاااااااا لاااا !!
- عمر ، عمر ما بالك ! عمر أجبني ماذا حدث !
هدوء قاتل يتسلل إلى المكان بخفية ، ضوء أحمر، وصوت سيارة إسعاف تبث الرعب في قلوب سامعيها ، تتخالط الأصوات ببعضها .
صوت من الخلف يأتي – يارب سترك !
بعد نصف ساعة تماماً ،
تتلقفه أيدي الطاقم الطبي ، والرجل الذي  يكسوه البياض يحاول أن يسرع التصرف ، وينقذه ولكنه قلق بشأن حالته المتعسرة ،
عجوز يرى المنظر يميل رأسه يمنةً ويسرة ببطء شديدين – لا حول ولا قوة إلا بالله .
شرع الطبيب في إدخاله إلى غرفة العمليات ، مع تزويده بكل ما يحتاج إليه ليبقى حياً ،
عَلِم الطبيب بوجود نزيف داخلي ، حاول السيطرة عليه ..
- الحمدلله ، الآن حالته مستقرة بعض الشيء ..
- هل أستطيع أن أطمئن على حاله ؟
- بالطبع .. هو بخير ..
أذكر إني سمعت الطبيب يقول في ذلك اليوم : – إنه في غيبوبة وقد لا يخرج منها إلا بعد أيام .
بعد 5 أيام ، زاره اثنان من اصدقائه ، بالكاد استطاع أن يتسمع إلى ما يقولانه ،
- بحاجة لوقوفنا بجانبه و مواساتنا له.

ولكن يعود السؤال ويتكرر مرة أخرى ، ما الذي حدث ؟!
اصطدم عمر بمركبة في الوقت نفسه الذي كان يتكلم فيه عبر هاتفه النقال ،ركاب تلك المركبة أم وطفلاها ،كان الحادث عنيفاً جداً / جداً ،  تناثرت أشلاء الأجساد في كل مكان ، قفز طفل صغير لايتجاوز عمره 7 سنوات من نافذة السيارة حينما شعر بأن الموت شيء واقع لا محالة ، أما الطفلة المسكينة ظلت متشبثة بأمها التي لاتجيبها بشيء ، وهي تبكي وتزيد في البكاء.
 – أمي اجيبيني
أمي لاتتركيني وحيدة ، من لي غيرك يا أمي ..!!
خاب رجاؤها لم تستطع أمها أن تجيبها ولكن لعلها سمعتها ، فتحت عينيها قليلاً وابتسمت لها ، قبلت يديها وضمتهما ، تناثرت حبات لؤلؤ من عينيها فوق يد أمها . سمعت صرخة من خلفها " ماتت " !
مات عمر ، مات قلبه ، ومات جسده ، وماتت عيناه , وخارت قواه ، ولم يبقى شيء حي بداخله غير دموعه ، التي تتجدد كل وهلة ،
يبكي ندماً ، يبكي فقداً ، يبكي أغلى ما لديه ، عينيه ..
بات أعمى .. !
انزل يديه ، حاول أن ينام ، ليهدأ قليلاً .. استجابة لرغبة عينيه العاطلتين عن العمل .. !
ونبض قلبه من جديد ، دعا الله بأن يرزقه نور البصيرة طالما فقد نور بصره .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق